الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
الناس في مسمى القياس على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حقيقة في التمثيل مجاز في الشمول، وهو قول الغزالي وأبي محمد. والثاني: العكس وهو قول ابن حزم. والثالث: أنه حقيقة فيهما، وهو الأصح الذي عليه الجمهور، فإن القياس عند أصحابنا والجمهور ينقسم إلى: عقلي، وهو: ما يكتفي فيه بالعقل، وإلى شرعي وهو: ما لا بد فيه من أصل معلوم بالشرع. وكل من العقلي والشرعي وكل ما يسمى قياسًا ينقسم، إلي قياس تمثيل وقياس شمول. فالأول إلحاق الشيء بنظيره، والثاني إدخال الشيء تحت حكم المعنى العام الذي يشمله، ثم كل منهما متصل بالآخر؛ لأنه لابد بين المثلين من معنى مشترك يكون شاملا لهما، ولابد في المعنى الشامل لاثنين فصاعدًا من تسوية أحد الاثنين بالآخر في ذلك المعنى، فالقياس ثابت فيهما وهو التقدير والاعتبار والحسبان.
الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد. أما [البرهان] فصورته صورة صحيحة وإذا كانت مواده صحيحة فلا ريب أنه يفيد علمًا صحيحًا لكن الخطأ من و جهين: أحدهما: أن حصر مواده فيما ذكروه من الأجناس المذكورة لا دليل عليه البتة، فأصابوا فيما أثبتوه دون ما نفوه، فمن أين يحكم بأنه لا يقين إلا من هذه الجهات المعينة، فإن رجع فيه الإنسان إلى ما يجده من نفسه فمن أين له أن سائر النوع ـ حتى الأنبياء والأولياء ـ لا يحصل لهم يقين بغير ذلك، ثم الواقع خلاف ذلك. الثاني: أن هذا البرهان يفيد العلم، لكن من أين علم أنه لا يحصل لقلب بشر علم إلا بهذا البرهان الموصوف بل قد رأينا علومًا كثيرة هي لقوم ضرورية أو حسية، ولآخرين نظرية قياسية، فلهذا كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وهو ما حصل من العلوم بغير هذه المواد المحصورة، أو بغير قياس أصلا، بل زعم أفضل المتأخرين منهم أن علوم الأنبياء والأولياء لا تحصل إلا / بواسطة القياس، وكلامهم يقتضى أن علم الرب كذلك ولا دليل له على ذلك أصلا سوى محض قياس الأنبياء والأولياء على نفسه، وقياس الرب والملائكة على البشر. فهذا موضع ينبغي للمؤمن أن يتيقنه،ويعلم أن هؤلاء القوم وغيرهم إنما ضلوا ـ غالبًا ـ من جهة ما نفوه وكذبوا به، لا من جهة ما أثبتوه وعلموه؛ ولهذا كان المنطق مظنة الزندقة لمن لم يقو الإيمان في قلبه، حيث اعتقد أنه لا علم إلا بهذه المواد المعينة، وهذه الصورة، وذلك مفقود عنده في غالب ما أخبرت به الأنبياء فيشك في ذلك أو يكذب به أو يعرض عن اعتقاده والتصديق به، فيكون عدم إيمانه وعلمه من اعتقاده الفاسد أنه لا علم إلا من هذه المواد المعينة ولا دليل عليه البتة، وإن كانت مفيدة للعلم، فالفرق ظاهر بين كونها تفيده وبين كونها تفيده ولا يحصل بغيرها. ومما يبين ذلك أن القياس لا يدل على علم كلي، وهم معترفون بذلك؛ لأنه لابد فيه من مقدمة كلية إيجابية، والكلي لا يدل إلا على القدر المشترك وهو الكلي، فجميع الحقائق المعينة لا يدل عليها القياس بأعيانها، وإنما يعلم به ـ إن علم ـ صفة مشتركة بينها وبين غيرها فلا يعلم به شيء من خواص الربوبية البتة، ولا شيء من خواص ملك من الملائكة ولا نبي من الأنبياء ولا ولي من الأولياء، بل ولا ملك من الملوك، ولا أحد من الموجودات العلوية ولا السفلية، فإذا العلم بهذه الأشياء إما أن يكون منتفيًا أو حاصلًا / بغير القياس، وكلا القسمين واقع فإنه منتف عندهم؛ إذ لا طريق لهم غير القياس، وحاصل ذلك عند الأنبياء وأتباعهم بل حاصل ذلك في الجملة عند جميع أولى العلم من الملائكة والنبيين وسائر الآدميين. وأيضًا، فإذا كان لابد فيه من مقدمة كلية فإن كانت نظرية افتقرت إلى أخرى وإن كانت بديهية، فإذا جاز أن يحصل العلم بجميع أفرادها بديهة، فما المانع أن يحصل ببعض الأفراد وهو أسهل. وأما الحد، فالكلام عليه في مواضع: أحدها: دعواهم أن التصورات النظرية لا تعلم إلا بالحد الذي ذكروه فالقول فيه، كالقول في أن التصديقات النظرية لا تحصل إلا بالبرهان الذي حصروا مواده، ولا دليل على ذلك، ويدل على ضعفه أن الحاد إن عرف المحدود بحد غيره فقد لزم الدور أو التسلسل، وإن عرفه بغير حد بطل المدعى. فإن قيل: بل عرفه بالحد الذي انعقد في نفسه كما عرف التصديق بالبرهان الذي انعقد في نفسه قبل أن يتكلم به، قيل: البرهان مباين للنتيجة؛ فإن العلم بالمقدمتين ليس هو عين العلم بالنتيجة، وأما الحد المنعقد في النفس فهو نفس العلم بالمحدود، وهو المطلوب، فأين الحد المفيد للعلم بالمحدود، وهذا أحد ما يبين. /الموضع الثاني: وهو أنه قد يقال: إن الحد لا تعرف به ماهية المحدود بحال، بخلاف البرهان فإنه دليل على المطلوب أما بالنسبة إلى الحاد؛ فلأنه عرف الشيء قبل أن يحده، وإلا لم يصح حده؛ لأن الحد يجب أن يطابقه عمومًا و خصوصًا ولولا معرفته به قبل أن يحده لم تصح معرفته بالمطابقة، وأما بالنسبة إلى المستمع، فلأن معرفته بذلك إذا لم تكن بديهية ولم يقم الحاد عليه دليلا، امتنع أن يحصل له علم بمجرد دعوى الحاد المتكلم بالحد؛ ولهذا تجد المستمع يعارض الحد ويناقضه في طرده وعكسه ولولا تصوره المحدود بدون الحد لا متنعت المعارضة والمناقضة. وإنما فائدة الحد التمييز بين المحدود وغيره لا تصويره، وهو مطابق لاسم الحد في اللغة فإنه الفاصل بينه وبين غيره؛ وذلك أنه قد يتصور ماهية الشيء مطلقًا، مثل من يتصور الأمر والخبر والعلم، فيتصوره مطلقًا لا عامًا، فالحد يميز العام الذي يدخل فيه كل خبر وعلم وأمر. ومن هنا يتبين لك أن الذي يتصور بالبديهة من مسميات هذه الأسماء وهو الحقيقة المطلقة غير المطلوب بالحد، وهو الحقيقة العامة، ثم التمييز للأسماء تارة وللصفات أخرى فالحد إما بحسب الاسم وهو الحد اللفظي الذي يحتاج إليه في الاستدلال بالكتاب والسنة وكلام كل عالم، وإما بحسب الوصف وهو تفهيم الحقيقة التي عرفت صفتها وهذا يحصل بالرسم والخواص وغير ذلك. الموضع الثالث: الفرق بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية بحيث يدعي / أن هذا لا تفهم الماهية بدونه بخلاف الآخر، فإن العاقل إذا رجع إلى ذهنه لم يجد أحدهما سابقًا والآخر لاحقًا، ثم إذا كان المرجع في معرفة الذاتي إلى تصور الذات، والمرجع في تصورها إلى معرفة الذاتي كان دورًا؛ لأنا لا نعرف الماهية إلا بالصفات الذاتية، ولا نعرف الصفات الذاتية حتى نتصور الذات؛ فإن الصفات الذاتية ما تقف معرفة الذات عليها، فلا تعرف الذاتية إلا بأن نعرف أن فهم الذات موقوف عليها، فلا تريد أن تفهم الذات حتى تعرف الذاتية وبسط هذا كثير. الموضع الرابع: دعواهم أن الماهيات مركبة ولا تركيب في الذهن.
/وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه: قد كتبت فيما تقدم ملخص [المنطق] المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين، وعربته لفظًا ومعنى، فإنها أحسنت ألفاظه وحررت معانيه، وهو المنسوب إلى أرسطو اليوناني الذي يسميه أتباعه من الصابئين الفلاسفة المبتدعين [المعلم الأول]؛ لأنه وضع التعاليم التي يتعلمونها من المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعة. فإن هذه التعاليم لما اتصلت بالمسلمين وعربت كتبها مع ما عرب من كتب الطب والحساب والهيئة وغير ذلك، وكان انتشار تعريبها في دولة الخليفة أبى العباس الملقب بالمأمون، أخذها المسلمون فحرروها لفظًا ومعنى، لكن فيها من الباطل والضلال شيء كثير. /فمنهم من اتبعها مع ما ينتحله من الإسلام وهم صابئة المسلمين المسمون بالفلاسفة، فصاروا مؤمنين ببعض الكتاب دون بعض، بمنزلة المبتدعة من اليهود والنصارى قبل النسخ، لما بدلوا بعض الكتب التي بأيديهم. ومنهم من لم يقصد اتباعها لكن تلقى عنهم أشياء يظن أنها جميعها توافق الإسلام وتنصره، وكثير منها تخالفه وتخذله، وهذه حال كثير من أهل الكلام المعتزلة؛ ولهذا قيل: هم مخانيث الفلاسفة. ومنهم من أعرض عنها إعراضًا مجملا، ولم يتبع من القرآن والإسلام ما يغني عن كل حقها ويدفع باطلها ولم يجاهدهم الجهاد المشروع، وهذه حال كثير من أهل الحديث والفقه وغير ذلك، وقد كتبت فيما تقدم بعض ما يتعلق بذلك في مواضع من القواعد، وذكرت في تلخيص جمل المنطق ما وقع من الجهل والضلال بسببه وبعض ما وقع فيه من الخلل. وهنا تلخيص ذلك فأقول: مقصود الكلام في طرق العلم بالتصورات والتصديقات، فالأول كالحد والرسم، والثاني كالقياس بأنواعه من البرهان وغيره، وكالتمثيل والاستقراء. وقد يزعمون أن المطلوب من التصورات لا ينال إلا بجنس الحد، / والمطلوب من التصديقات لا ينال إلا بجنس القياس، وقد يسمى جنس القياس بالنسبة، كما يسمى جنس القول الشارح حدًا، وأما البديهي من النوعين فمستغن عن الحـد والبرهان، فتضمن هذا الكلام أن الحدود تفيد تصوير الحقائق، وأن ذلك لا يحصل بغيرها، وأن القياس يفيد التصديق بالحقائق، وأن ذلك لا يحصل بغيره، وفي كلا الأمرين وقع الخطأ. أما في الحد ففي كلا القضيتين السلب والإيجاب، فيما أثبتوه وفيما نفوه. أما الأول، فإن الحد لا يفيد تصور الحقائق، وإنما يفيد التمييز بين المحدود وغيره، وتصور الحقائق لا يحصل بمجرد الحد الذي هو كلام الحاد، بل لابد من إدراكها بالباطن والظاهر، وإذا لم تدرك ضرب المثل لها، فيحصل بالمثال الذي هو قياس التصويرـ لا قياس التصديق ـ نوع من الإدراك كإدراكنا لما وعد الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، والأمثال المضروبة في القرآن تارة تكون للتصوير، وتارة تكون للتصديق، وهذا الوجه مقرر بوجوه متعددة، وإنما الغرض هنا تلخيص المقصود. وأما الثاني، وهو النفي فإن إدراك الحقائق المتصورة المطلقة ليس موقوفًا على الحد لو فرض أنها تعرف بالحد، بل تحصل بأسباب الإدراك المعروفة / وقد تحصل من الكلام بالأسماء المفردة كما تحصل بالحد، وربما كان الاسم فيها أنفع من الحد، وهذا ـ أيضًا ـ مقرر. وأما القياس فلا ريب أنه يفيد التصديق إذا صحت مقدماته وتأليفها، لكن الخطأ فيه من النفي من وجهين أيضًا: أحدهما: أن حصول العلم التصديقي في النفس ليس موقوفًا على القياس، بل يحصل بغير القياس. الثاني: أن القياس البرهاني ليست مواده منحصرة فيما ذكروه في الحسيات والوجديات والبديهيات والنظريات والمتواترات والتجريبيات والحدسيات، كما بينت هذا في غيرهذا الموضع، والله أعلم.
/ فأجاب: أما كتب المنطق، فتلك لا تشتمل على علم يؤمر به شرعًا، وإن كان قد أدى اجتهاد بعض الناس إلى أنه فرض على الكفاية، وقال بعض الناس: إن العلوم لا تقوم إلا به، كما ذكر ذلك أبو حامد، فهذا غلط عظيم عقلًا وشرعًا. أما عقلًا، فإن جميع عقلاء بني آدم من جميع أصناف المتكلمين في العلم حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني. وأما شرعًا، فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان. وأما هو في نفسه فبعضه حق، وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على / من لم يكن خبيرًا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء، وكانت سبب نفاقهم، وفساد علومهم. وقول من قال: إنه كله حق كلام باطل، بل في كلامهم في الحد، والصفات الذاتية والعرضية، و أقسام القياس والبرهان، ومواده من الفساد ما قد بيناه في غير هذا الموضع، وقد بين ذلك علماء المسلمين، والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. [العقل] في كتاب الله وسنة رسوله وكلام الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين هو أمر يقوم بالعاقل، سواء سمي عرضا أو صفة، ليس هو عينًا قائمة بنفسها، سواء سمي جوهرًا أو جسمًا أو غير ذلك، وإنما يوجد التعبير باسم "العقل" عن الذات العاقلة التي هي جوهر قائم بنفسه في كلام طائفة من المتفلسفة الذين يتكلمون في العقل والنفس، ويدعون ثبوت عقول عشرة، كما يذكر ذلك من يذكره من أتباع أرسطو أو غيره من المتفلسفة المشائين. ومن تلقي ذلك عنهم من المنتسبن إلى الملل. وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبين أن ما يذكرونه / من العقول والنفوس والمجردات والمفارقات والجواهر العقلية لا يثبت لهم منه إلا نفس الإنسان، وما يقول بها من العلوم وتوابعها، فإن أصل تسميتهم لهذه الأمور مفارقات هو مأخوذ من مفارقة النفس البدن بالموت، وهذا أمر صحيح، فإن نفس الميت تفارق بدنه بالموت، وهذا مبني على أن النفس قائمة بنفسها، تبقى بعد فراق البدن بالموت منعمة أو معذبة، وهذا مذهب أهل الملل من المسلمين وغيرهم، وهو قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين، وإن كان كثير من أهل الكلام يزعمون أن النفس هي الحياة القائمة بالبدن. ويقول بعضهم: هي جزء من أجزاء البدن كالريح المترددة في البدن أو البخار الخارج من القلب. ففي الجملة، النفس المفارقة للبدن بالموت ليست جزءا من أجزاء البدن، ولا صفة من صفات البدن عند سلف الأمة وأئمتها، وإنما يقول هذا وهذا من يقوله من أهل الكلام المبتدع المحدث من أتباع الجهمية والمعتزلة ونحوهم . والفلاسفة المشاؤون يقرون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن، لكن يصفون النفس بصفات باطلة، فيدعون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلا، والعقل عندهم هو المجرد عن المادة وعلائق المادة، والمادة عندهم هي الجسم، وقد يقولون: هو المجرد عن التعلق بالهيولي، والهيولي في لغتهم هو بمعنى المحل. ويقولون: المادة والصورة. /والعقل عندهم جوهر قائم بنفسه لا يوصف بحركة ولا سكون ولا تتجدد له أحوال البتة. فحقيقة قولهم: إن النفس إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال، لا علوم ولا تصورات، ولا سمع ولا بصر ولا إرادات، ولا فرح وسرور، ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث، بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلًا وأبدًا، كما يزعمونه في العقل والنفس. ثم منهم من يقول: إن النفوس واحدة بالعين. ومنهم من يقول: هي متعددة. وفي كلامهم من الباطل ما ليس هذا موضع بسطه. وإنما المقصود التنبيه على ما يناسب هذا الموضع، فهم يسمون ما اقترن بالمادة التي هي الهيولي ـ وهي الجسم في هذا الموضع ـ نفسًا كنفس الإنسان المدبرة لبدنه، ويزعمون أن للفلك نفسًا تحركه كما للناس نفوس، لكن كان قدماؤهم يقولون: إن نفس الفلك عرض قائم بالفلك كنفوس البهائم، وكما يقوم بالإنسان الشهوة والغضب، لكن طائفة منهم كابن سينا وغيره زعموا أن النفس الفلكية جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان، وما دامت نفس الإنسان مدبرة لبدنه سموها نفسًا، فإذا فارقت سموها عقلا؛ لأن العقل عندهم هو المجرد عن المادة وعن علائق المادة، وأما النفس فهي المتعلقة بالبدن تعلق التدبير والتصريف. /وأصل تسميتهم هذه مجردات هو مأخوذ من كون الإنسان يجرد الأمور العقلية الكلية عن الأمور الحسية المعينة، فإنه إذا رأى أفرادًا للإنسان كزيد وعمرو عقل قدرًا مشتركًا بين الأناسي وبين الإنسانية الكلية المشتركة المعقولة في قلبه، وإذا رأي الخيل والبغال والحمير وبهيمة الأنعام وغير ذلك من أفراد الحيوان، عقل من ذلك قدرًا كليًا مشتركًا بين الأفراد، وهي الحيوانية الكلية المعقولة، وإذا رأى مع ذلك الحيوان والشجر والنبات، عقل من ذلك قدرًا مشتركًا كليًا وهو الجسم النامي المغتذي، وقد يسمون ذلك النفس النباتية وإذا رأى مع ذلك سائر الأجسام العلوية الفلكية والسفلية العنصرية، عقل من ذلك قدرًا مشتركا كليا وهو الوجود العام الكلي الذي ينقسم إلى جوهر وعرض، وهذا الوجود هو عندهم موضوع "العلم الأعلى" الناظر في الوجود ولواحقه، وهي [الفلسفة الأولى] و[الحكمة العليا] عندهم. وهم يقسمـون الوجود إلى جوهـر وعرض، والأعراض يجعلونها [تسعة أنواع]، هذا هو الذي ذكره أرسطو وأتباعه يجعلون هذا من جملة المنطق؛ لأن فيه المفردات التي تنتهي إليها الحدود المؤلفة، وكذلك من سلك سبيلهم، ممن صنف في هذا الباب كابن حزم وغيره. وأما ابن سينا وأتباعه فقالوا: الكلام في هذا لا يختص بالمنطق،/ فأخرجوها منه وكذلك من سلك سبيل ابن سينا كأبى حامد والسهروردي المقتول والرازي والآمدي وغيرهم. وهذه هي [المقولات العشر] التي يعبرون عنها بقولهم:الجوهر، والكم والكيف، والأين، ومتى، والإضافة، والوضع، والملك، وأن يفعل، وأن ينفعل، وقد جمعت في بيتين وهي: زيد الطويل الأسود بن مالك ** في داره بالأمس كان متكي في يده سيف نضاه فانتضـــا ** فهذه عشر مقولات ســـوا وأكثر الناس ـ من أتباعه وغير أتباعه ـ أنكروا حصر الأعراض في تسعة أجناس، وقالوا: إن هذا لا يقوم عليه دليل، ويثبتون إمكان ردها إلى ثلاثة وإلى غير ذلك من الأعداد، وجعلوا الجواهر خمسة أنواع: الجسم، والعقل، والنفس، والمادة، والصورة. فالجسم جوهر حسي، والباقية جواهر عقلية، لكن ما يذكرونه من الدليل على إثبات الجواهر العقلية، إنما يدل على ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان. وهذه التي يسمونها [المجردات العقلية] ويقولون: الجواهر تنقسم إلى ماديات، ومجردات، فالماديات القائمة بالمادة وهي الهيولي وهي الجسم، والمجردات هي المجردات عن المادة، وهذه التي يسمونها المجردات أصلها هي هذه الأمور / الكلية المعقولة في نفس الإنسان، كما أن المفارقات أصلها مفارقة النفس البدن. وهذان أمران لا ينكران، لكن ادعوا في صفات النفس وأحوالها أمورًا باطلة، وادعوا ـ أيضًا ـ ثبوت جواهر عقلية قائمة بأنفسها ويقولون فيها: العاقل، والمعقول والعقل شيء واحد. كما يقولون: مثل ذلك في رب العالمين، فيقولون: هو عاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ ولذة. ويجعلون الصفة عين الموصوف، ويجعلون كل صفة هي الأخرى، فيجعلون نفس العقل الذي هو العلم نفس العاقل العالم، ونفس العشق الذي هو الحب نفس العاشق المحب، ونفس اللذة هي نفس العلم ونفس الحب، ويجعلون القدرة والإرادة هي نفس العلم، فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة وهو المحبة وهو اللذة، ويجعلون العالم المريد المحب الملتذ هو نفس العلم الذي هو نفس الإرادة وهو نفس المحبة وهو نفس اللذة، فيجعلون الحقائق المتنوعة شيئًا واحدًا، ويجعلون نفس الصفات المتنوعة هي نفس الذات الموصوفة، ثم يتناقضون فيثبتون له علما ليس هو نفس ذاته، كما تناقض ابن سينا في إشاراته، وغيره من محققيهم، وبسط الكلام في الرد عليهم بموضع آخر. والمقصود أنهم يعبرون بلفظ العقل عن جوهر قائم بنفسه، ويثبتون جواهر عقلية يسمونها المجردات والمفارقات للمادة؛ وإذا حقق الأمر عليهم لم يكن عندهم غير نفس الإنسان التي يسمونها الناطقة وغير ما يقوم بها من المعنى الذي يسمى عقلا. / وإنما هذا فعل ابن سينا وأتباعه، وهم خالفوا في ذلك سلفهم وجميع العقلاء، وخالفوا أنفسهم ـ أيضًا ـ فتناقضوا، فإنهم صرحوا بما صرح به سلفهم وسائر العقلاء من أن الممكن الذي يمكن أن يكون موجودًا وأن يكون معدومًا، لا يكون إلا محدثًا مسبوقا بالعدم. وأما الأزلي الذي لم يزل ولا يزال، فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنًا يقبل الوجود والعدم، بل كل ما قبل الوجود والعدم لم يكن إلا محدثًا، وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله فهو محدث مسبوق بالعدم كائن بعد أن لم يكن، كما بسط في موضعه. لكن ابن سينا ومتبعوه تناقضوا فذكروا في موضع آخر أن الوجود ينقسم إلى:واجب، وممكن، وأن الممكن قد يكون قديمًا أزليًا لم يزل ولايزال يمتنع / عدمه، ويقولون: هو واجب بغيره، وجعلوا الفلك من هذا النوع، فخرجوا عن إجماع العقلاء الذين وافقوهم عليه في إثبات شيء ممكن يمكن أن يوجد وألا يوجد، وأنه مع هذا يكون قديمًا أزليًا أبديًا ممتنع العدم واجب الوجود بغيره، فإن هذا ممتنع عند جميع العقلاء، وذلك بين في صريح العقل لمن تصور حقيقة الممكن الذي يقبل الوجود والعدم كما بسط في موضعه. وهؤلاء المتفلسفة إنما تسلطوا على المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم؛ لأن هؤلاء لم يعرفوا حقيقة ما بعث الله به رسوله، ولم يحتجوا لما نصروه بحجج صحيحة في المعقول، فقصر هؤلاء المتكلمون في معرفة السمع والعقل، حتى قالوا: إن الله لم يزل لا يفعل شيئًا ولا يتكلم بمشيئته . ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث، وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلمًا بمشيئتة ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث، وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلما بمشيئته فعالا لما يشاء؛ لزعمهم امتناع دوام الحوادث، ثم صار أئمتهم ـ كالجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف ـ إلى امتناع دوامها في المستقبل والماضي، فقال الجهم بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما، وأنهم يبقون دائمًا في سكون، ويزعم بعض من سلك هذه السبيل أن هذا هو مقتضى العقل، وأن كل ما له ابتداء، فيجب أن يكون له انتهاء. ولما رأوا الشرع قد جاء بدوام نعيم أهل الجنة، كما قال تعالى: وصار كثير منهم إلى جواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي، وذكروا فروعًا عرف حذاقهم ضعفها، كما بسط في غير هذا الموضع، وهو لزومهم أن يكون الرب كان غير قادر ثم صار قادرًا من غير تجدد سبب يوجب كونه قادرًا، وأنه لم يكن يمكنه أن يفعل ولا يتكلم بمشيئته، ثم صار الفعل ممكنا له بدون سبب يوجب تجدد الإمكان. وإذا ذكر لهم هذا قالوا: كان في الأزل قادرًا على ما لم يزل. فقيل لهم: القادر لا يكون قادرًا مع كون المقدور ممتنعًا، بل القدرة على الممتنع ممتنعة، وإنما يكون قادرًا على ما يمكنه أن يفعله، فإذا كان لم يزل قادرًا، فلم يزل يمكنه أن يفعل. ولما كان أصل هؤلاء هذا صاروا في كلام الله على ثلاثة أقوال: فرقة قالت: الكلام لا يقوم بذات الرب، بل لا يكون كلامه إلا مخلوقًا؛ لأنه إما قديم وإما حادث، ويمتنع أن يكون قديمًا؛ لأنه متكلم بمشيئته وقدرته، والقديم لا يكون بالقدرة والمشيئة، وإذا كان الكلام / بالقدرة والمشيئة كان مخلوقًا لا يقوم بذاته؛ إذ لو قام بذاته كانت قد قامت به الحوادث، والحوادث لا تقوم به؛ لأنها لو قامت به لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، قالوا: إذ بهذا الأصل أثبتنا حدوث الأجسام، وبه ثبت حدوث العالم، قالوا: ومعلوم أن ما لم يسبق الحادث لم يكن قبله إما معه وإما بعده، وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث. وكثير منهم لم يتفطن للفرق بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين، فإن الحادث المعين والحوادث المحصورة يمتنع أن تكون أزلية دائمة، وما لم يكن قبلها فهو إما معها وإما بعدها، وما كان كذلك فهو حادث قطعًا، وهذا لا يخفى على أحد. ولكن موضع النظر والنزاع [نوع الحوادث] وهو أنه هل يمكن أن يكون النوع دائمًا فيكون الرب لايزال يتكلم أو يفعل بمشيئته وقدرته أم يمتنع ذلك؟ فلما تفطن لهذا الفرق طائفة قالوا: وهذا ـ أيضًا ـ ممتنع لامتناع حوادث لا أول لها، وذكروا على ذلك حججًا كحجة التطبيق، وحجة امتناع انقضاء ما لا نهاية له وأمثال ذلك. وقد ذكر عامة ما ذكر في هذا الباب وما يتعلق به في مواضع غير هذا الموضع، ولكل مقام مقال. وأولئك المتفلسفة لما رأوا أن هذا القول مما يعلم بطلانه بصريح العقل، وأنه يمتنع حدوث الحوادث بدون سبب حادث، ويمتنع كون الرب يصير فاعلا بعد / أن لم يكن، وأن المؤثر التام يمتنع تخلف أثره عنه ـ ظنوا أنهم إذا أبطلوا هذا القول فقد سلم لهم ما ادعوه من [قدم العالم] كالأفلاك وجنس المولدات ومواد العناصر، وضلوا ضلالا عظيمًا خالفوا به صرائح العقول.وكذبوا به كل رسول. فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن، ليس مع الله شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام. والعقول الصريحة تعلم أن الحوادث لابد لها من محدث، فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها، لم يكن في العالم شيء من الحوادث، فإن حدوث ذلك الحادث عن علة قديمة أزلية مستلزمة لمعلولها ممتنع، فإنه إذا كان معلولها لازمًا لها كان قديمًا معها لم يتأخر عنها، فلا يكون لشيء من الحوادث سبب اقتضى حدوثه فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث، وهؤلاء فروا من أن يحدثها القادر بغير سبب حادث، وذهبوا إلى أنها تحدث بغير محدث أصلا لا قادر ولا غير قادر، فكان ما فروا إليه شرًا مما فروا منه، وكانوا شرًا من المستجير من الرمضاء بالنار. واعتقد هؤلاء أن المفعول المصنوع المبتدع المعين كالفلك، يقارن فاعله أزلًا وأبدًا لا يتقدم الفاعل عليه تقدمًا زمانيًا، وأولئك قالوا: بل المؤثر التام يتراخى عنه أثره ثم يحدث الأثر من غير سبب اقتضى حدوثه، فأقام الأولون الأدلة العقلية الصريحة على بطلان هذا، كما أقام هؤلاء الأدلة العقلية الصريحة / على بطلان قول الآخرين، ولا ريب أن قول هؤلاء ـ أهل المقارنة ـ أشد فسادًا ومناقضة لصريح المعقول، وصحيح المنقول، من قول أولئك ـ أهل التراخي. والقول الثالث ـ الذي يدل عليه المعقول الصريح ويقر به عامة العقلاء ودل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة ـ لم يهتد له الفريقان، وهو أن المؤثر التام يستلزم وقوع أثره عقب تأثره التام لا يقترن به ولا يتراخى، كما إذا طلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، وكسرت الإناء فانسكر، وقطعت الحبل فانقطع، فوقوع العتق والطلاق ليس مقارنًا لنفس التطليق والإعتاق بحيث يكون معه، ولا هو ـ أيضًا ـ متراخ عنه، بل يكون عقبه متصلا به، وقد يقال:هو معه ومفارق له باعتبار أنه يكون عقبه متصلا به، كما يقال: هو بعده متأخر عنه، باعتبار أنه إنما يكون عقب التأثير التام؛ ولهذا قال تعالى: وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله حادث، كائن بعد أن لم يكن، وإن قيل مع ذلك ـ بدوام فاعليته ومتكلميته، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. /والمقصود هنا أن هذا هو أصل من قال: القرآن محْدَث، ومن قال: إن الرب لم يقم به كلام ولا إرادة، بل ولا علم، بل ولا حياة، ولا قدرة ولا شيء من الصفات، فلما ظهر فساد هذا القول شرعًا وعقلا، قالت طائفة ممن وافقتهم على أصل مذهبهم: هو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل كلامه أمر لازم لذاته كما تلزم ذاته الحياة،ثم منهم من قال: هو معنى واحد؛ لامتناع اجتماع معاني لا نهاية لها في آن واحد، وامتناع تخصيصه بعدد دون عدد. وقالوا: ذلك المعنى هو الأمر بكل مأمور، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وقالوا: إن الأمر والنهي صفات للكلام لا أنواع له، فإن معنى [آية الكرسي] و[آية الدين] و فقال جمهور العقلاء لهم: تصور هذا القول يوجب العلم بفساده، وقالوا لهم: موسى سمع كلام الله كله أو بعضه، إن قلتم: كله لزم أن يكون قد علم علم الله. وإن قلتم: بعضه، فقد تبعض، وقالوا لهم: إذا جوزتم أن تكون حقيقة الخبر هي حقيقة الأمر، وحقيقة النهي عن كل منهى عنه، والأمر بكل مأمور به هو حقيقة الخبر عن كل مخبر عنه، فجوزوا أن تكون، حقيقة العلم هي حقيقة القدرة، وحقيقة القدرة هي حقيقة الإرادة، فاعترف حذاقهم بأن هذا لازم لهم لا محيد لهم عنه، ولزمهم إمكان أن تكون حقيقة الذات هي حقيقة الصفات. وحقيقة الوجود الواجب هي حقيقة الوجوب الممكن، والتزم ذلك طائفة منهم فقالوا: / الوجود واحد، وعين الوجود الواجب القديم الخالق هو عين الوجود الممكن المخلوق المحدث. وهذا أصل قول القائلين بوحدة الوجود، كابن عربي الطائي وابن سبعين وأتباعهما، كما بسط في مواضع. ومن هؤلاء القائلين بأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته مع قيام الكلام به من قال: كلامه المعين حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولاتزال. وزعموا أن كلا من القرآن والتوراة والإنجيل حروف وأصوات قديمة أزلية، لم تزل ولاتزال. فقال لهم جمهور العقلاء: معلوم بالاضطرار أن الباء قبل السين، والسين قبل الميم، فكيف يكونان معًا أزلا وأبدا ؟ ومعلوم أن الصوت المعين لا يبقى زمانين، فكيف يكون أزليا لم يزل ولا يزال؟ فقالت الطائفة الثالثة ـ ممن سلك مسلك أولئك المتكلمين: بل نقول: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، وإن لزم من ذلك قيام الحوادث به فلا محذور في ذلك لا شرعًا ولا عقلا، بل هذا لازم لجميع طوائف العقلاء، وعليه دلت النصوص الكثيرة وأقوال السلف والأئمة . ونقول: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، كما دلت على ذلك النصوص وأقوال السلف، لكن نقول: إنه لم يكن في الأزل متكلمًا، ويمتنع أن / يكون لم يزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؛ لأن ذلك يستلزم حوادث لا أول لها، وهو أصل هؤلاء. فقيل لهم: معلوم أن الكلام صفة كمال لا صفة نقص، وأن من يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يكون قادرًا على الكلام بمشيئته وقدرته. وحينئذ فمن لم يزل متكلمًا بمشيئته أكمل ممن صار قادرًا على الكلام، بعد أن كان لا يمكنه أن يتكلم. وقالوا لهم: إذا قلتم: تكلم بعد أن كان الكلام ممتنعًا، من غير أن يكون هناك سبب أوجب تجدد قدرته وتجدد إمكان الكلام له، قلتم: إنه لم يزل غير قادر على الكلام ولم يزل الكلام غير ممكن له، ثم صار قادرًا يمكنه أن يتكلم بمشيئته من غير حدوث شيء، وهذا مخالفة لصريح العقل، وسلب لصفات الكمال عن الباري، وجعله مثل المخلوق الذي صار قادرًا على الكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه. والسلف والأئمة نصوا على أن الرب تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء وكما شاء، كما نص على ذلك عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة الدين وسلف المسلمين، وهم الذين قالوا بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، لم يقل أحد منهم: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم إنه: مخلوق بائن / عنه، ولا قال أحد منهم إنه صار متكلما أو قادرًا على الكلام بعد أن لم يكن كذلك، وقد بسطت هذه الأمور في موضع آخر. والمقصود أن هذه الأقوال ـ التي قالها هؤلاء المتكلمون من الجهمية ـ والمعتزلة والكُلاَّبية والكرَّامية والسالمية، ومن وافقهم من المتأخرين الذين انتسبوا إلى بعض الأئمة الأربعة وخالفوا بها إجماع السلف والأئمة، وما جاء به الكتاب والسنة، وخالفوا بها صريح المعقول الذي فطر الله عليه عباده ـ هي التي سلطت أولئك المتفلسفة الدهرية عليهم، لكن قول الفلاسفة أعظم فسادًا في المعقول والمنقول.
والمقصود هنا أن اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء إنما هو صفة، وهو الذي يسمى عرضًا قائمًا بالعاقل، وعلى هذا دل القرآن في قوله تعالى: والعقل المشروط في التكليف لابد أن يكون علومًا يميز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره، فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس، ولا بين أيام الأسبوع، ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل، أما من فهم الكلام وميز بين ما ينفعه وما يضره فهو عاقل. ثم من الناس من يقول: العقل هو علوم ضرورية، ومنهم من يقول: العقل هو العمل بموجب تلك العلوم . والصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا، وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان التي بها يعلم ويميز ويقصد المنافع دون المضار، كما قال أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما: إن العقل غريزة، وهذه الغريزة ثابتة عند جمهور العقلاء، كما أن في العين قوة بها يبصر، وفي اللسان قوة بها يذوق، وفي الجلد قوة بها يلمس عند جمهور العقلاء. ومن الناس من ينكر القوى والطبائع كما هو قول أبي الحسن ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم،وهؤلاء المنكرون للقوي والطبائع / ينكرون الأسباب أيضًا ويقولون: إن الله يفعل عندها لا بها، فيقولون: إن الله لا يشبع بالخبز، ولا يروي بالماء، ولا ينبت الزرع بالماء، بل يفعل عنده لا به، وهؤلاء خالفوا الكتاب والسنة وإجماع السلف مع مخالفة صريح العقل والحس، فإن الله قال في كتابه: والناس يعلمون بحسهم وعقلهم أن بعض الأشياء سبب لبعض، كما يعلمون أن الشبع يحصل بالأكل لا بالعد، ويحصل بأكل الطعام لا بأكل الحصى وأن الماء سبب لحياة النبات والحيوان كما قال:
والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن الصلاة:(إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء) وقال له بلال: يارسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، وقال تعالى} اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }[الزمر:42[. قال ابن عباس وأكثر المفسرين: يقبضها قبضين: قبض الموت، وقبض النوم، ثم في النوم يقبض التي تموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى حتى يأتي أجلها وقت الموت. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا نام: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها . وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)،وقد ثبت في الصحيح: أن الشهداء جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح / في الجنة ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش. وثبت ـ أيضا ـ بأسانيد صحيحة: أن الإنسان إذا قبضت روحه فتقول الملائكة: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجى راضية مرضيًا عنك، ويقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجســد الخبيث، اخرجي ساخطة مسخوطًا عليك، وفي الحديث الآخر: (نسمة المؤمن طائر تعلق من ثمر الجنة ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش) فسماها نسمة. وكذلك في الحديث الصحيح حديث المعراج: أن آدم ـ عليه السلام ـ قبل يمينه أسودة، وقبل شماله أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، وأن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذه الأسودة نسم بنيه: عن يمينه السعداء، وعن يساره الأشقياء)، وفي حديث على: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة)، وفي الحديث الصحيح: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) فقد سمى المقبوض وقت الموت ووقت النوم روحًا ونفسا، وسمى المعروج به إلى السماء روحًا ونفسًا، لكن يسمى نفسًا باعتبار تدبيره للبدن ويسمى روحًا باعتبار لطفه، فإن لفظ [الروح] يقتضى اللطف؛ ولهذا تسمى الريح روحًا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الريح من روح الله) أي من الروح التي خلقها الله فإضافة الروح إلى الله إضافة ملك لا إضافة وصف؛ إذ كل ما يضاف إلى الله إن كان عينًا قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله. /فالأول كقوله: والثاني كقولنا: علم الله، وكلام الله، وقدرة الله، وحياة الله، وأمر الله، لكن قد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به فيسمى المعلوم علمًا، والمقدور قدرة والمأمور به أمرًا، والمخلوق بالكلمة كلمة، فيكون ذلك مخلوقًا. كقوله:
|